بقلم:سليم النفار
أراك بصيرا بالذين أحبهم يقودك نحو الأقربين دليل
الموت...آه منك أيها الموت....نعارك كل شيء في الحياة,من اجل حياة أبهى.
من اجل أحلام,تستحم في نهر وجودنا,نفعل أي شيء,غير عابئين بالصعاب
لان الأهداف الكبيرة,والأحلام الجميلة,تستحق العناء,تستحق البذل والعطاء,
وهي لا تعرف لغة المستحيل,لأنها إرادة الحياة بالحياة.
غير انك وحدك,وحدك أيها الموت,تقهر كل شيء فينا,وكأنك تلك الكهرباء,
تنقطع فجأة,ليكف كل شيء عن فعله...لماذا هكذا؟
هي سنة الوجود منذ الأزل,غير أنها سنة قاسية,قد يجد البعض فيها تواصلا
مع حياة أخرى,ذات عوالم مختلفة,وقد يجد البعض الآخر فيها,نهاية كل شيء.
فليس كل الموت سواء,فهناك موت يثمر,وهناك موت موات...
فقد ينهى عمل البعض فوق البسيطة,لكن أحلامه ومشاريعه تبقى متواصلة باسمه,وبروحه,وان رحل الجسد.
*** *** ***
عمر شبلي..أبو احمد حلب:هو من البعض الذي مازالت أحلامه ومشاريعه تتواصل من خلال أبناءه ورفقاء دربه وحلمه.
هناك..على مقربة من صخب البحر,وفتنة الشاطئ القروي...هناك في طيرة حيفا..ولد المناضل عمر شبلي عام 1945 ....غير أن ملوحة البحر لم تكد تسري في جسده, وطيرة حيفا لم تكد تتحرر من لثغات ذلك الطفل الذي كان...حينما داهم الوطن كله جحيم النكبة عام 1948 .
في تلك الأيام ضرب الفلسطيني على رأسه,لم يستطع الاحتفاظ بتوازنه,فالكارثة كانت اكبر مما تخيل,فهام الفلسطينيون هنا وهناك,في مخيمات اللجوء والشتات.
وكانت عائلة شبلي,مثل كل العوائل الفلسطينية,التي أصيبت بتلك الفاجعة,ولحق بها ما لحق بكل الشعب من الشتات وفي الشتات.
وكانت مدينة حلب السورية,مكان لجوئهم الأول,و تحديدا فيما عرف بعد ذلك بمخيم النيرب.
هناك على أطراف مدينة حلب الشهباء,مدينة سيف الدولة الحمداني,انشىء مخيم النيرب, بالقرب من القاعدة الجوية الفرنسية سابقا.
وفي تلك الظروف البالغة التعقيد:من هم ونكد وفقر عاش عمر شبلي"أبو احمد حلب"عاش الطفولة والشباب هناك...وهناك تفتحت عيناه على القهر الذي أحدق بالفلسطيني,على الضنك والمأساة...على الوحدة والخذلان.لكنه لم يستسلم لذلك,شأنه شأن ذلك الجيل الستيني الثائر...ذلك الجيل الذي قرر رسم الفرح وسط سيل من الدموع.
فقد ظل يحمل في ضلوعه,حلم العودة,إلى طيرة حيفا,إلى بحرها,وزرعها وأهلها...ولم يكتف بالحلم وحسب.فقد التحق مبكرا منذ يفاعة الشباب,بصفوف الثورة الفلسطينية المعاصرة.
حالما انتهى من دراسته الجامعية في أواسط الستينيات,انخرط أبو احمد..في صفوف العمل المقاوم ليحقق أحلامه بالعودة إلى وطن كان قد انتزع منه في سني عمره الأولى.
وفي طريقه إلى ذلك,لم يكن يترجم إيمانا وطنيا وحسب...إنما كان ممتلئا بإيمان قومي,وإنساني غير محدود.
ولأنه كان كذلك,فقد عبر عن ذلك بربط اسمه,باسم المدينة التي ترعرع فيها,وانطلق منها حاملا بحر أحلامه لقد ذهب أبو احمد بعيدا,بعيدا في رحلة البحث والنضال من اجل وطنه,من اجل حياة عامرة بالحياة,دونما تعب أو ملل...
من سوريا إلى عمان إلى بيروت...ومن بيروت إلى العراق والجزائر وتونس,كلها مواقع للتصادم السياسي أو القتال العسكري ضد الغزاة المحتلين.
وبيروت ماتزال تعرف أبا احمد,في معمعان الدفاع عن الثورة وقرارها,كان أبو احمد فارسا من فرسان تلك المعركة ..وفي بيروت خطوط النار الملتهبة أمام المغول الجدد,كان هناك أيضا مقاتلا صلبا,وقائدا فذا ,يلوذ بسلاحه وأهدافه دفاعا عن شرف الأمة كلها,وصونا لحلمها الكبير.
وفي عام 1993 توقع م.ت.ف اتفاق"أوسلو"وكان أبو احمد ورفاقه,قد أعلنوا رفضهم لذلك الاتفاق..غير أنهم لم يخرجوا من المنظمة,وذلك حفاظا عليها,وتمسكا بها باعتبارها الكيان الشرعي,و الوطن ا لمعنوي لكل الفلسطينيين.
وفيما بعد اختار أبو احمد مع رفاقه العودة إلى غزة...وذلك ليس تغييرا لرأيهم في الاتفاق,وإنما للإسهام في بناء لبنة من لبنات الحلم الفلسطيني الكبير,ذلك الحلم الذي طافوا الدنيا كلها من اجله.
عاد أبو احمد في مواكب العائدين...إلى غزة,عاد مع رفقاء دربه وحلمه..مع القائد الراحل:ياسر عرفات,مع أبي العباس رفيق الحلم والصبا..الذي استشهد فيما بعد في سجون أمريكا في العراق..نعم هناك استشهد رفيقه أبو العباس دفاعا عن أحلامهم بوطن كبير وحر.
*** *** *** ***
وهنا في غزة,في الهواء والتراب الفلسطينيين,عمل أبو احمد بلا كلل أو ملل,من اجل ذات الحلم,وقد شغل مناصب عدة:في وزارة الداخلية,وفي مجلس الأمن القومي,في لجنة المتابعة العليا للقوى الوطنية والإسلامية وفي تنظيمه الوطني في جبهة التحرير الفلسطينية..وكلها مواقع تشهد ببصمات وطنية,وحدوية للمناضل القدير وللإنسان الكبير...
*** ****
في عام 2003 صار أبو احمد الأمين العام لجبهة التحرير,بعد استشهاد رفيقه أبالعباس...ولكن بقي أبو احمد هو ذاته,الذي عاش في أزقة المخيمات,وفي صفوف المقاتلين وبين المواطنين يحرس أهدافهم وتطلعاتهم ويخدم الجميع فيما استطاع إلى ذلك سبيلا..فلم تغيره المناصب أبدا.
ولم ينسى رفاق دربه,فقد كان دائما حريصا على تذكيرهم بمسيرة الشهداء القادة:طلعت يعقوب,وأبو العباس,وحفظي قاسم وآخرون تطول حكايتهم في سجل العطاء.
كان ضعيفا أمام الشهداء والأسرى,دائما يفكر في حال أسرهم,وأكثر ما يغضبه الشعور بالعجز أمامهم.
وعلى طول هذه المسيرة المكتظة بالآلام والفجائع,لم تكن تفارق أبا احمد الابتسامات الهادئة,الواثقة بالفرح فقد كان حريصا على إشاعة روح الدعابة والمرح بين رفاقه.
أبو احمد الممتلئ هما وقلقا,على المستوى النفسي,أبو احمد الجسد المزروع بشظية هنا
وبقايا طلقة هناك,كان عليك أن تنظر إليه يوم فرح أولاده:مهدي وهادي ومنى,لتدرك حجم
الشوق الذي يسكنه,الشوق إلى الفرح...إلى الحياة بطبيعتها.
كان عليك أن تجالسه بعيدا عن السياسة,لتدرك حجم حبه للأطفال,فهم يحتلون عالما خاصا عنده..فلو زرته ذات يوم في مكتبه ستأخذ حبة من الشوكولاته تلك الموجودة دائما في مكتبه لأطفال أصحابه,ربما كان في ذلك يعبر عن شوق لطفولة حرم من طعمها مبكرا
لذلك كان ينتظر بشوق قدوم حفيده"عمر الصغير" ربما أدرك في اللاشعور دنو الأجل فأحب
أن يرحل مطمئنا إلى وجود ابتسامة,إلى" عمر" آخر يواصل ما لم يحققه من فرح...لم يسعفه الحظ,فكانت إرادة الله أقوى وحب الله إليه أسرع...ذهب إلى الله فرحمة الله عليه
ولكن نم مطمئنا فان"عمر الصغير"سميك,حفيدك..قد وصل,وفي ذلك عزاء كبير عن الفقد
والخسران...لقد وصل لينشر موسم الفرح,طالما انك سعيت إليه طويلا,إذا لا تقلق
واذهب بعيدا...بعيدا في الفرح.