شُـرف على ذاك المطر
جديد الشاعر : سليم النفار
غريب عسقلاني
كيف يمتح الشعر من الذاكرة ؟
وكيف يلتقط وكيف يعيد الخلق / الرؤية
وما المباح في حدود المتوفر / المتاح ،من حيوات سبقت لإضاءة حياة حاضرة أو غد يتشكل في مسامات الحلم .
هذه الأسئلة تداهمك وأنت تبحر في قصيدة نشيد البحارة للشاعر سليم النفار ، القصيد المطولة التي تحتل مساحة شاسعة وأساسية من ديوانه الرابع الذي صدر في القدس بعنوان شُرف على ذاك المطر، عن دار أبو غوش للطباعة والنشر . ويضم ست قصائد ، ويقع في 118 صفحة من القطع المتوسط .
في الديوان يقف الكاتب منبهراً ومبهوظاً في آن واحد ، يرصد من شرفات القصيدة ذاك الاندغام ، والتماهي بين البحر / الذاكرة ، والفضاء / الحلم المؤجل على قتام وخراب الواقع من حوله ، تحيره الرؤيا وتضرب يافوخه اليقظ ... فداحة الخسران في رحلة عمر قصيرة / طويلة يبحث عن أب غادره إلى بطن الموجة وما زال يجدف حتى ينعم بدفء شاطئ يافا ، وكأني بالشاعر الابن الذي قد سلم بالفناء المادي للبحار عندما كان طفلاً ، ويرفض الغياب عندما أصبح شاباً شاعراً لأن غياب الشهداء هو الحضور الدائم ، ليس بالمعنى الغيبي أو الديني على عمقه ، ولكن بتداعيات التناسل والتناسخ وجدلية الصيرورة وتفسير الإشارات بين مصطفى البحار الأب ومصطفى الحفيد الذي جاء إلى الدنيا فيما بعد ، والشاعر يدفع ضريبة الانبعاث من أعصابه وضفيرة أيام حياته المجدولة مع أمه المفجوعة التي أوقفت حياتها عند عبق السيرة ، والتي أوقفت شهواتها بانتظار أن يضيء الحلم ، ويعود الذي تشظى في كيانات من نسله :
ماذا فعلت
تلك الساعة
وهي امرأة تعرف كيف تحسُّ الوقت
على أشجار النبض ؟
هذه العاشقة أودعت قلبها في صدر فارسها ليركب معه متون الموج ويشهق نسيم الشاطئ البعيد ، قلبها امتطى الزورق الذي أقسم بالاندفاع سبيلاً وحيداً للإيمان / العشق / الفطرة التي لا تساوم على الحقائق ، هذه المرأة التي تعودت رائحة أجساد زغاليلها أثيراً من الحاضر فيها الغائب عنها :
كانت أمي
تغلي الماء على البابور
كي نغتسل فنبدو أجمل .. حين نلامس خدّ أبينا
العائد من رحلته ليلاً
لكن العائد لم يعد من مشواره الأخير ، ولم ينعم جلد وجهه المشدود من جهامة الليل ورياح النوّات ، بأثير عرق الصغار ، ولم يلامس أشواق العروس التي تتجمل بأولادها حين عشق يحمل سر الوجد الذي لا يدركه سواه .. فالقدر المترصد يقطع بسيفه وشيجة حلم وقف على شرفة القلب ولهث ينتظر الوصال ولكن :
لم تكمل
سيرتها في الحب الصعب
فامتلأت عيناها
بغيوم الحزن وأمطار الوجد
عرس آخر اكتملت شروطه ، فهل تهيأت العاشقة التي ترى في البياض غير البياض وفي السواد غير الخوف والهلع ، وهل كان يوم الغياب محطة :
يوم الجمعة للجمعة عند الرب
لكن الآه اختصرت فيّا
كل عذابات الآه
يمضي البحار مع أفراس الماء ، يبحث عن جنونٍ يخلصه من جنيات البحر وقد ترك حوريته على شاطئ فقير / غريب / بعيد ينتظر وقد أقسمت أن لا تنشر ضفائرها إلا عند شاطئ غادرته طفلة ، ومازالت ملوحته تسري في مسامات جلدها رغم جفاف الوقت وتناسل الهموم .
ماذا تبكي وكيف ,قد فقدت وقتها والوقت المثكول يردد ويؤكد :
هذا لا يُبكى
فنساء الحي جميعاً
يوم أبيه .. كانوا امرأة ثكلى ..
على أضواء السيرة ، وأصداء نتفٍ من حكايات معلنة وأخرى مخبوءة في صدر الأم .. يكبر الشاعر سليم النفار رأس ماله اللجوء والمنفى وبرودة الفراش .. واستدعاء شعيرات أخذها الغمام ومضى .. وأصدقاء أبيه يحتسون الدمعات كلما زاروا البيت يترحمون ، ويلتاعون على يتيم يكبر قبل مـولد الأيام ، والأيام عجاف / أيدرك بعد وقت فجيعته الخاصة / العامة :
علمني يافا
كيف تعض القلب
بأسنان لبنية
فهل تتحول الأسنان اللبنية إلى أنياب كواسر ، تستبد بها شهوات الانتقام والافتراس ، واستعذاب طعم الدم ، ولكن الطفل يصبح شاعراً تؤرقه الأسئلة ، ويلاحقه العطش الذي لازم أبيه :
والأرض العطشى
قد شربت حبات الغيم
لكن النعش
ظل على عطش لم يشرب
بالله كيف يظل الأب على عطش وقد قضى في الماء .. لم يكفه ماء البحر حتى يرتوي ، لأنه قبل أن يصل مرفأه الذي يريد :
ما كانت غاية جهدك
أن تصبغ لون الماء ، بألوان أخرى
كنت تريد البسمات
الأولاد
لكنه توحد مع البحر وتحول إلى موجات ونوات، لاتهدأ أو لا تعرف للنوم سبيلاً فهو المشبوح على دعوته ، حاضر غائب ، يرسل تعاليمه إلى الطفل الذي أصبح شاعراً ، بضاعته الأرق والتجوال بحثاً عن مفاتيح الأسئلة ، يقف على شرفات المطر ويناجي :
هذا البحر الشامخ
لو نام قليلا .. لا يأخذه النوم
فهو لنا معنا ،
يدعونا طول اليوم
ولأن البحر يجيد الهدير ، وإطلاق الطاقة موجه إثر موجه ، يصفع وجه الشاطئ ويسحب ماءه حتى لا يفقد بعضاً منـه ،يضرب وجـه الصبي الشاعر / الرجل ، ويطلق فيه لوعة الحصول على الأجوبة :
علمني
كم خذلوك
وكم باعوك
فسدوا الطرق عليك
وإذا كان سليم النفار قد وقف وجهاً لوجه مع ذاته في قصيدة نشيد البحارة ، يستنطق تجربته الشخصية ليرتفع معها إلى تجربة عامة ولكنه في النصوص التالية : يحاول أن يتقمص روح الجماعة ، ولذلك يميل إلى التريث وضبط وتيرة لهاثه ، والاقتراب من محاكمة هادئة عميقة حزينة حزن الوقت ، مخذولة خذلان الوطن ، فنراه في قصيدة حصة الرسم يتأمل قوافل العائدين إلى الوطن / حقيقة أو حلماً :
الغائبون الحاضرون
قد أودعوا سر اليفاعة في الأغاني
وتمنطقوا غيماً
لكي تصفو المعاني في المعاني
فالرحلة ممتدة وطويلة ، وإن نجمة ستلوح يوماً ، وان الخسائر متوقعة ، والغياب لمن تحب قدر / ضريبة ، لأن الوطن ينتظر من التزموا به ونذروا أنفسهم قرابين :
ستطول رحلتنا على ذات الطريق
لم نعتقد
أن الطريق ستنكسر
لنؤوب مرات على ذات الرؤى
في المسيرة قد تتعثر الخطى ، ويسكن الشك والريبة , والغموض أطناب المكان ، وتحدث البلبلة بين الحين ولآخر ,وتتكاثف العتمة حتى تقتل ذُبالات القناديل البعيدة والقريبة ، فالأمر يتطلب الحكمة والإيمان بالحياة حتى لو تشوّه وجه الكون ، وصار الخراب سيد الحالات :
إنْ نختلفْ
فيما تفسره الحياة
سنظل في قيثارة المعنى
ولو نامت على أرض سماء
السبيل إلى الوطن ثورة دائمة على الواقع ورصد أزلي للمتغيرات وفجيعة مقدرة للمؤمنين ، لأنه الرباط على المكان والرباط في المعنى أيضاً حتى يتحقق الأمل المرتجى :
فرسي على الصحراء مصلوب يُباح
وقبائلي
نطف ملونة بريح العابرين
المؤمنون القابضون على الحقيقة لا تلوي أعناقهم جهامات الواقع اليومي ولا يفت من عضدهم الحرمان والفقد ، لأنهم نُذروا إلى فرح آت وإن بات مؤجل ، وعليه فإن الوجد حالة مطلوبة حتى وإن غاصت في قدرية صوفية في بعض الأحيان :
لم تعطني الأيام وقتاً / كي أغني
مذ كنت غضاً / غُضّت الأفراح عني
ولأنه لا بد من التمسك بالأمل بعيدا عن مقايسات الموت والفناء ولكن على فضاء الحلول في الحياة بعد الموت والفناء في الخلود / الوطن الأبقى لأن اليوم دائماً مقدمه للغد ، وليس نواحاً على الأمس فالأمس أخذ مبرراته وجراحه و لا يجب أن يكون فاصل لحن النهاية الحزين :
هذي بدايتنا / على خطو له أجل
أنت الذي تسمو / فماذا تفعل المُقل
يا مشعل الغايات / ارحم إنك الأمل
والتقرب إلى مشعل الغايات لا يأتي هنا من بوابات الانكسار والإحباط ، ولكن من نوافذ الضوء المفتوحة ، على وهج الحقيقة / الحق الامتثال والى صيرورة الصراع :
ما ساقتِ الأحلام
إلا من به خدرُ
ولكن لا بأس لو تزودنا بالمواجع زاداً للانبعاث والانطلاق من جديد لأن المواجع والفواجع معناها الايجابي البناء / البعيد عن التدمير ولكن هو في حقيقته غسيل للذات من أدرانها وبعث الجوهر / جوهرة الحقيقة :
يا سيد الأغراب عالج غربتي
وجعي تمادى / إذ تمادت حيرتي
إنا عليك وفيك نعقد همة
من ذا يجاري إن تلاشت همتي ؟
ولآن الشاعر ما زال يحلم بالمنارة التي قصدها بحاره الأول يرهف السمع للبحر ، يراقب أمواجه موجة إثر موجه يأخذ مكانه على شرفات مطر آتٍ لأن:
كل الصوامع معتمة
والناس في خناسها
ولأننا لا نحفظ التاريخ ،
يُعرِبُنا الصدى ...
تحياتي الكم
من سليم
ابن غزة الجريحة
مشكورين على مروركم